إن موضوع اللغة والهوية بالنسبة لي كجزائري مسلم موضوع يثير الأشجان والمواجع في نفسي، اذ اليوم في العالم الإسلامي عامة وفي المغرب الكبير خاصة نعيش تغريبا ثقافيا ومسخا حضاريا لم يسبق له مثيل، في بلدان تنص دساتيرها على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة تعيش العربية غريبة بين أبنائها، لا يكاد يستعملها أحد في أمر ذي شأن إلا قلة قليلة على استحياء، تدخل مدرج الجامعة فيقابلك الأستاذ باللغة الفرنسية، تذهب لمقابلة عمل فيحاورونك بالفرنسية، تدخل بعض الإدارات فتستقبلك موظفة الإستقبال وهي تلوك لسانها بلغة لا هي لغتها ولا هي لغة من تتحدث إليه.
لماذا الفرنسية؟
لو أخذنا التعليم الجامعي في الجزائر على سبيل المثال، فإن أغلب التخصصات العلمية في جامعاتنا إن لم نقل كلها تدرس باللغة الفرنسية، بينما كان المفترض أن تدرس باللغة العربية لأنها اللغة الرسمية للدولة، واللغة الأم للسواد الأعظم من الطلبة، وهي اللغة التي يفهمها الجميع واللغة التي تربوا على سماعها ودرسوا العلوم المختلفة بها طيلة مشوارهم الدراسي قبل الجامعة، هذا هو الوضع الطبيعي الذي لا يحتاج سببا لتبريره، بل العدول عنه مثل ما يحدث الآن هو ما يحتاج إلى سبب مقنع، والمدافعون عن ذلك هم من يلزمهم تبرير موقفهم والإتيان بحجج مقنعة للإبقاء على الفرنسية وليس العكس، كما يحاولون خداع العامة من الناس دائما.
لو كانت التخصصات العلمية تدرس باللغة الإنجليزية لتفهمنا الوضع ولكان ذلك أمرا مقبولا - إلى حد ما - كونها لغة العالم، واللغة الأصلية للكثير من العلوم الحديثة، لكن أن تدرس العلوم بلغة لا هي لغة العلم الأصلية ولا هي اللغة الرسمية للبلاد، ولا هي لغة يفهمها الطلبة بسهولة فهذا ما لم أجد له تبريرا مقنعا حتى الآن، ليست الفرنسية سوى حجر عثرة في طريق التقدم!!
الإنجليزية ليست البديل
في الآونة الأخيرة تعالت أصوات شريحة كبيرة من الشعب الجزائري تطالب بالتحول من الفرنسية إلى الإنجليزية في تدريس التخصصات العلمية، وهذه الخطوة لا شك خطوة كبيرة نحو الأمام لو تتحقق، فأغلب الشباب الجزائريين اليوم على غرار شباب الدول العربية الأخرى التي كانت مستعمرات فرنسية في السابق صاروا يهتمون باللغة الإنجليزية وصاروا يفهمونها بشكل أفضل من اللغة الفرنسية على عكس الجيل السابق من آباءهم وأجدادهم.
رؤية شيء كهذا أمر مبشر وجميل نسبيا، التحول من لغة أجنبية إلى لغة أجنبية أخرى أفضل من منها وسيلة للوصل إلى غاية أهم وليست هي الغاية التي علينا أن نسعى إليها، الهدف الذي ينبغي العمل من أجله هو نقل العلوم المختلفة بعد التمكن منها إلى لغتنا العربية، وتدريسها للأجيال القادمة بها، بل والمساهمة في تطويرها وإنتاج جديد العلم في التخصصات المختلفة بالعربية أيضا، فلو نظرنا إلى الحضارات التي قامت على مر التاريخ سنجدها جميعا بدأت بترجمة العلوم المختلفة من اللغات والحضارات الأخرى التي تقدمتها، هكذا فعل المسلمون مع علوم اليونان والفرس في العصر العباسي، وهكذا فعل الأوروبيون مع علوم المسلمين قبل بضعة قرون، على مر التاريخ لم تقم حضارة واحدة بلغة غيرها.
أعلم أن هناك من يسخرون من مبادرات تعريب العلوم ويخذّلون من يطالبون بذلك، تحت دعوى أن اللغة ما هي إلا وسيلة للتواصل، والمهم هو العلم وليس اللغة التي يدرس بها؟ هذه العبارة من أكثر العبارات المستفزة التي أسمعها، خصوصا أن قائليها تجدهم غالبا أناسا ممسوخين حضاريا، ذائبين في ثقافة جلادهم، نعم عندما يتعلق الأمر بالعربية تصير اللغة عندهم وسيلة للتواصل فقط، أما الفرنسية فيتعاملون معها كنمط حياة ودين مقدس، لا يسمح لأحد بالتجرء عليه أو المساس به!
ما هو الحل؟
أول الحل الذي أراه هو أن نعلم بوجود مشكلة في الوضع الحالي وأن ندرك مدى خطورتها، لأن هذا سيكون الوقود الذي يدفعنا للتحرك في ابتغاء الوسائل العملية لحل المشكلة لاحقا، بعد ذلك تأتي مرحلة العمل والتضحية بالجهد والوقت، سألخص بعض الأمور العملية التي أراها على شكل نقاط سريعة مبعثرة، أذكر منها:
- تركيز المتخصصين على تأليف الكتب العربية المتخصصة، وترجمة الكتب المركزية في العلوم الجديدة نسبيا، حتى تصبح هذه الكتب مراجعا للأبحاث والمقالات المستقبلية في تخصصاتها
- تركيز المتخصصين والعلماء على الحديث باللغة العربية عند الظهور على المنابر العامة ووسائل الإعلام، حتى لا يرسخ في أذهان الناس أن العربية لا تصلح لغة للعلم، ودليلهم على ذلك أن جميع العلماء والمتخصصين العرب يتحدثون باللغات الأجنبية في تخصصهم
- تكثيف استعمال اللغة العربية في المدونات المتخصصة والعامة
- الكتابة باللغة العربية على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي وتجنب استعمال اللغات الأجنبية في الحالات العامة، بل يجب أن يتعامل معها كأدوات تستعمل عند الحاجة فقط
- كتابة العامية بالحروف العربية بدل اللاتينية على مواقع التواصل
- تحويل لغة الهاتف والتطبيقات والأجهزة الإلكترونية الأخرى إلى اللغة العربية إذا كانت متوفرة، نعم سيكون ذلك صعبا في الأيام الأولى لكنك سوف تعتاد عليه سريعا - وهذا عن تجربة شخصية - لأن زيادة عدد مستخدمي لغة معينة سيزيد من اعتمادها ودعمها على مختلف المنصات والبرامج
- المساهمة في تعريب البرامج والأدوات البرمجية وتوثيقاتها الرسمية، وكتابة المدونات التعليمية حولها بالنسبة لمن يجيد ذلك
- صناعة محتوى تعليمي بالعربية للمبتدئين والمتقدمين في مختلف المجالات والتخصصات
- الترويج "المجاني" للكتب والمدونات وقنوات اليوتيوب التي تقدم محتوى عربيا هادفا
- تعريف الناس وتبصيرهم بخطورة هذا الغزو الثقافي وبضرورة العودة إلى لغتنا وهويتنا الأصيلة
وغيرها كثير .. هذه فقط بعض النقاط البسيطة التي أراها سهلة التطبيق، لكنها تشكل فرقا كبيرا لو اعتمدت على نطاق واسع.
لكني أعيد وأكرر أن السيارة لا تسير دون وقود، وأن أول الحل هو إدراك حجم المشكلة التي نعيشها حاليا، ومدى خطورتها علينا وعلى الأجيال التي سوف تأتي من بعدنا إن لم نقف بحزم وثبات في وجهها الآن، ومن يدرك خطورة المشكلة سيجد الوسيلة المناسبة التي يستطيع من خلالها المساهمة في حلها، كل حسب مستواه وظروفه ومايمكنه فعله، ولا أحد يستثنى من المسؤولية مهما كانت وظيفته ومستواه التعليمي، جميعنا نتحمل جزءا من المسؤولية، والفرد منا حاليا إما أن يكون جزءا من الحل، وإما أن يكون جزءا من المشكلة، ولا أرى في هذا الموضوع موقفا وسطا أو محايدا.
ختاما، أزمة اللغة العربية هي أزمة رجال بالدرجة الأولى، وليست أزمة اللغة في حد ذاتها، ومن قال أنها لا تصلح لغة للعلم، أجبناه أنها كانت لغة العلم لقرون من الزمن، لماذا صلحت كل تلك المدة من الزمن ولا تصلح اليوم؟ الحقيقة أننا أهل اللغة العربية ابتعدنا عن العلم، بينما ظفر به غيرنا فازدانت لغتهم ومعاجمهم بأسماء المخترعات والإكتشافات، بينما رضينا نحن بالهوان وبقينا في مؤخرة الركب، لم نعجز عن الإختراع والإكتشاف فحسب بل عجزنا حتى عن تسمية ما اخترعوه واكتشفوه.
قال شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدته المشهورة على لسان اللغة العربية ترثي حالها:
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً
وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ
وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
أرى لرِجالِ الغَربِ عِزّاً ومَنعَة
وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغاتِ
أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً
فيا ليتَكُمْ تأتونَ بالكلِمَاتِ
رحم الله حافظ إبراهيم، ويا ليتنا نأتي بالكلمات يوما ما.