كثيرا ما أرى في مواقع التواصل منشورات تقارن بين الكفاءة من جهة والشهادة الأكاديمية من جهة أخرى وأيهما الأفضل، هنا ينقسم الناس إلى فئتين، فئة تستميت في الدفاع عن الشهادة والتعليم الأكاديمي ولا ترى النجاح إلا فيه، تتثمل هذه الفئة غالبا في الأكاديميين والموظفين الذي حصلوا وظائفهم بفضل شهاداتهم الجامعية، وفئة أخرى تزدريها بشكل مبالغ فيه وترى الشهادة شيئا زائدا ومضيعة للوقت، تتمثل هذه الفئة غالبا في المستقلين والمقاولين وأصحاب المهن الحرة، ذلك لأنهم يرون أنفسهم ناجحين رغم أنف الجامعة والشهادة التي تقدمها،هاتان الفئتان تنظران من زاويتين مختلفتين، فلا ريب أن تجد عندهما تصورين مختلفين عن الشيء نفسه.
في الحقيقة المقارنة بين الكفاءة والشهادة مقارنة في غير محلها لأنها مقارنة بين شيئين مختلفين لا يتعارضان في الغالب، أي أنك لست مجبرا على أخذ واحدة منهما وترك الأخرى، بل يمكن الجمع بينهما في وقت واحد. لعل ما يثير هذا السؤال هو وجود أناس أكفاء بدون شهادات، وأناس أصحاب شهادات تنقصهم الكفاءة في الجهة المقابلة، ما يجعل الكثيرين يكفرون بالدراسة الأكاديمية والشهادة وكل ما يمت لهما بصلة. بين الشهادة والكفاءة يمكن تمييز أربعة أنواع من الناس:
- شخص كفؤ صاحب شهادة تعليمية
- شخص كفؤ بدون شهادة تعليمية
- صاحب شهادة غير كفء
- شخص بلا كفاءة ولا شهادة تعليمية
المنطق والحكمة يقتضيان أن الرجل اذا تمكن من الجمع بين الشهادة التعليمية والكفاءة سواء في مجالها أو في مجال آخر غيرها فهذا الأفضل وأقصى مايرام، أما إن تعذر ذلك فالكفاءة وحدها تقدم على الشهادة وحدها، أما انعدام الكفاءة والشهادة معا فهذه أحط الدرجات، وحالتها لا تناقش وليست محل اختلاف أبدا بين اثنين من الناس.
في هذه الأيام، في عصر الأنترنت ومواقع التواصل والعمل عن بعد، صار من السهل جدا أن يزدري شاب في الجامعة دراسته الأكاديمية أو الشهادة التي يدرس من أجلها، خاصة حين يرى أصحابه الذين لم يدخلوا الجامعة يجنون الدولارات من مواقع العمل الحر عبر التصاميم ثلاثية الأبعاد الممتعة، بينما هو عاكف على حل مسائل الرياضيات الجافة، قد يدرسه أستاذ دون المستوى علما وخلقا، وقد لا يملك أيضا قيمة قهوته لليوم الموالي، ما أيسر أن تضيع منه البوصلة إذا اجتمعت عليه ظروف كهذه، وقد يقرر في لحظة طيش إهمال الدراسة دون تردد والتوجه نحو تعلم مهارة تساعده في دخول هذا المجال الذي يبدو له مثاليا من النظرة الأولى.
حقا الشهادة لاتعني الكفاءة بالضرورة، فكم من صاحب شهادة لا يعرف بديهيات مجاله، وكم ممن لا شهادة له وعنده من الكفاءة ما ليس لدي الكثيرين من أصحاب الشهادات، لكن ماذا لو اجتمعت فيك الكفاءة والشهادة معا؟ ذاك هو المبتغى الذي سوف يجعل منك رقما صعبا في معادلة الحياة، ويجعل الناس تنظر لك بعين الإحترام، وحتى على الصعيد المالي سوف يزيد احتمالية حصولك على مشاريع وفرص في العمل الحر نفسه قد لا يبلغها غيرك، فمثلا لو تعطل هاتفك وأردت إصلاحه، وأخبرت عن تقنيين كلاهما متقن لعمله، أحدهما متحصل على شهادة الماستر في الإلكترونيات أما الآخر فلم يدخل الجامعة، من ستختار منهما؟ الأغلب أنك ستختار الأول لأن شهادته تعطيك شعورا زائدا بالأمان وتجعلك تحس أن له حدا أدنى من الفهم والكفاءة لا تدري إن كان لدى الآخر أم لا، بهذه النظرة تماما ينظر العملاء للمستقلين قبل إبرام عقد عمل معهم.
نصيحتي للطلبة أن لا تأخذكم الحماسة للعمل الحر بعيدا لدرجة التفكير في التخلي عن الدراسة، حتى وإن أخذت الشهادة وألقيتها في الخزانة بعد ذلك، فتأكد أن جهدك لم يضع وأنك سوف تستفيد من هذه الشهادة مستقبلا، ستستفيد منها احتراما من طرف الناس، وثقة من عملاءك في مستواك، كما أن المساءل التي أجبرت على حلها يوما ما لن تذهب سدى أيضا، سيأتي يوم تقدر قيمتها فيه عندما تصادفك في عملك بعض المشاكل المعقدة التي لم تكن لتستطيع حلها دون خلفية علمية جيدة.
أخيرا هذه مجرد نصيحة أردت كتابتها إنطلاقا من تجربتي الشخصية ومعاينتي لكل من وسط المستقلين والأكاديميين كمهندس برمجيات مستقل وطالب دكتوراه في الوقت نفسه، أعتبر نفسي محل تقاطع بين الفئتين اللتين ذكرتهما في أول المقال مما قد يمكنني من النظر من كلا الزاويتين، ولكن يبقى هذا مجرد رأي شخصي قد تتفق وقد تختلف معه.